أيام حدباي في كردفان (4)
أيام حدباي في كردفان (4)
ناصر قاسم عثمان بريمة
عند مجيئه للأبيض لأول مرة فتح حدباي قهوةً في سوق فلاته ( سوق قورو) وكان يبيع فيها الحطب والفحم إضافة لعملها كقهوة ، وقد وجدت القهوة حظاً كبيراً من القبول والإذدحام خاصة حينما علم الناس أنها تخص الشاعر حدباي فكان البعض منهم يأتي إليها للإستماع والإستمتاع من شعر صاحبها والبعض الآخر كان يأتي للسؤال عن بعض القصائد وعن أصحابها وعمن غنوها وجميعم يسعدون من حَكيه ومن ونسته الممتعه ، أكسبت تلك القهوة حدباي العديد من العلاقات الطيبة إضافةً لعائدها المادي الكبير وسارت به الأيام كما يشتهي إلي أن حدثت يوماً مشادة كلامية بينه وبين أحد الزبائن تطورت لشجار حاد قام فيه الزبون بضرب حدباي بالعصا في رأسه رقد علي إثرها في المستشفي لفترة طويله وبعد خروجه منها ترك العمل بالقهوة باحثاً عن عمل جديد ولأنه كان يسوق عربة الليمونادة بأمدرمان فقد عمل سائقاً لعربة بوكس مكتوب عليها ( الخيرات) خاصة بالسيد / عبدالحميد المهدي وبما أن السيد/ طه الحسين كان وكيلاً لأعمال عبدالحميد بالأبيض في الشركة الخُماسية لشراء وتصدير الضأن فقد نزل حدباي معهم بالمنزل القائم شرق منزل الصائغ المعروف عبدالله ودالترشّويه بحي الربع التاني غرب وهو ذات المنزل الذي كان يسكنة ولفترات طويلة العم عمر عبدالرحمن من أهالي الشوال ، وبعد أن إنفضّت الشركة عمل سائقاً مع سيد طه الحسين لفترة من الزمن رجع بعدها لوالده في أم روابة ومنها سافر ل ( أم قرناً جاك) لتلبية دعوة صديقه الأمير عبدالقادر منعم منصور ومكث فيها شهراً ويذيد وكنت قد إلتقيت بالسيد الأمير قبل أكثر من عشرة سنوات في حي القلعة بالأبيض وأنا أجمع معلوماتي عن حدباي وسألته وقتها عما دار في تلك الزيارة من حكي فليته يتحفنا بما حفظته تلك الأيام ، بعد عودته من أم قرناً جاك عمل بهيئة توفير المياه بالأرياف وتم نقله ليعمل كاتباً بدونكي الخوي فسافر إليها وهناك إنبهر بطيبة أهل الريف وكرمهم ومودتهم ومعروف في القري والفرقان كيف تسير الحياة علي سجيتها وبساطة أهلها وعفويتهم فكان البنيات حينما يأتين واردات لنقل المياه( يتراششن) بالموية ويطاردن بعضهن البعض وكما كان الحال في دونكي أم روابة فقد حرّكت فيه تلك المشاهد مكامن الأشواق فصّور ما رأي من لوحات ورفعها لصديقة عبدالقادر الكُتبي :
ظبــيـــــات الخــوي يتمـــارحن قـِدامـي
خَلّـن قـــــلبــي مابيــن الجوانــح دامــي
أوهـــــن قوتي ما اتحمـــلـــني أقـــدامي
ومـــــا عـــارف أظـــن هن قرّرن إعدامي
لوشفت النضارة الفطرة مِــــي مجلـــوبة
لوشفت السنون تقول شُـــخوب محلوبه
لو شفت النهود فـــوق الصدور منصوبـة
تــقذف باللهـــب النــَوبة تـِـــلو النــَــوبـة
ياعبداللطيــــف لوشـــفت حُســنه النــادر
وشفت زهي البداوة الما انطمس في بنادر
لوشـــفت الصــــدير المــــابدت لــي بوادر
كنـــت وقفــــت في مـنبر هــواهو تحاضر
سمــــح الصــــفات المــــا اتصـف بي سبه
وما نــــسبو لـــيه أقـــــرانو المعاهو مَسبّه
أهديتـــه دون النــــاس وداد ومـــــحبـــة
مــالــــو إذا تـــعطّـــف بـــي هدي لي حبه
مكث حدباي في الخوي فترة من الزمن تقارب العام أوتزيد عاد بعدها للأبيض ومنها لأمدرمان لزيارة الأهل والإطمئنان عليهم وبعد ماوصلها كانت له محبوبه يهواها وعرف أنها مريضة وطريحة الفراش بالمستشفي فذهب ملهوفاً لزيارتها والإطمئنان عليها ولحظة وصوله للعمبر كانت صاحبة الزيارة تنظر جهة الباب ومعها خالاتها وعماتها وبعض الجيران ولأن العفاف كان توب تلك الأيام فقد أشاحت وجهها عنه لجهة الحائط عندما رأته داخلاً عليها خوفاً من أن تفضحهما العيون واستدرك هو الأمر ورجع لكنه ولرهافة قلبه فقد اوجعه ذلك التصرف فكتب لها عتاباً :
وآليــــت عطــــفي نحوك وفي بهاكَ نبايه
ولّيت عني ســـــيدي قســــاوة ولا إبــايه
أنا العــــــاجبني في النـــوّر هواهـو غَبايا
عالــــي قوامو عاليه اخــلاقه عالي ربايه
فيما الصـــــدود فيــــــما العناد وجفايه
أي خطــــيئة أي جريمــــة أي جِـــــنايه
قصــــدي ومنيتي وآمـــالي بل مشهايه
يتعــــادل هوانا ويبـــقي حدو نهـــــايه
نتقـــابل وابـــث الماضي واحكي دهايه
ومن شعلة جبيـــنك نور نُهـــــاك ونُهايه
أنا الخــــافيها والأبديتـــــه في مَـغنايه
تحتاج من نـــــداك حــبة حـنان ورعايه
بالتصريح أبيت سويت شكــــيتي كِنــايه
وماهماك صدودك وماراعيتي انتي ضنايه
أجنيــــت الصبـــر من فـــــــرعك البتناية
والنوح والســـهاد صار يا ام حداقة جَنايه
عاد حدباي من أم درمان و(قعد القعده الياها )ولم يعد إليها إلا لسبب عظيم نحكيه لاحقا .
عاش حدباي وتعايش مع أهل الأبيض في أريحيةً تامة خاصه مع من يهتمون بالأدب والفن والشعر والغناء وكما سعدت به الأبيض فقد سعد هو أيضاً بوجوده فيها فمجتمعها كان طروباً يحب الغناء والطرب وتسمو روحه لمعالي الشعر وتسوح في مجاليه ورياضه وتكفيه فخراً شهادة نزار قباني والدكتورة عائشة بن الشاطئ … عاش حدباي سلطاناً بين أهل المدينة بسماحة خلقه وطيب معشره متفاعلاً مع مجتمعها في كل مايخصه ففي العام 1951 عندما زار الأبيض وفدٌ من خِيار أهل النهود لجمع تبرعات لإكمال بناء مدرسة النهود الثانوية أُقيم حفل تكريم لذلك الوفد تمت فيه دعوة الخيرين من أهل المال ووجهت فيه الدعوة للأستاذ/ حدباي فخاطب الجمع حاثاً ومحفّزاً للتبرع :
هل ياقــــــوم سمــعتم أو رأيتـــــم دار
ليها مكانـــــــته أم ليهــا مــن مـــــقدار
مثـــل المدرسة تطـــرح بنيــــــها ثمـار
ويخــــرج من بنــيهـــــا الضيغــم الهدّار
أبنــــاءالــمـــــدارس أوجــــــدو الرادار
والدبــــابــــة والذَريـــــة والــطـــــيـّـار
مدرسة النهود دايرين نشــــوفه عَــمــار
وقبل الحول يحول يكون بُنــاها مـــنار
يلا اتــــســــابقوا ومـــاتــــقولو بـــــوار
طوبه في طوبه تـــرفع سور من الأسوار
فصفق جميع الحاضرين معجبين بما قاله حدباي وتبرعوا بسخاء لبناء المدرسة وعاد الوفد للنهود وهو يلهج بالشكر لحدباي . وقبل أن أبارح هذه المحطة لأنتقل لأخري رجاءً تأملوا قصيدة المدرسة هذه وتأملوا في قوله
تطرح بنيها ثمار وهذا مايسمي بالسهل الممتنع كتابة المعني البسيط العميق في سهولة ويسر .
في العام 1979 والحاج عثمان بريمة( والد قاسم) يستعد للسفر لبيت الله الحرام لأداء فريضة الحج يتجمع الأهل والأصدقاء والجيران نساءً ورجال وعلي عادة الناس في تلك الأيام ( ليقدّموا )الحاج عثمان وزوجته فاطمة بت دفع الله وبنته سكينه للسكة حديد وتمتلئ ساحة المحطة بالمودعين والجميع يجلسون تحت اللبخة الضخمة مَجمع أهل الأبيض لأزمانٍ طويله والجو الروحاني يعم الوجوه والكل في إنتظار وصول القطار يتلفت قاسم باحثاً عن حدباي فإذا بالرجل يقف بعيداً عنهم وينظر ناحية الجالسات من النساء علي السُباته ولأن الطبع غلّاب فقد تحرّكت في دواخله أشياء وأشياء فتحرك قاسم إليه وحينما وصله هزه من كتفه وسأله :
اها بتتمايل وبتهمهم بتقول في شنو؟
فأسمعه حدباي أحاسيس تلك اللحظة:
الزهــــر المُنمّـــق وبالغيــــمــــات مُغــطي
شــــذّ شــــذاه عـَـطـّـــر أرجاء المحطــــة
قمنا تسوقنا فرحةوتهدي نفوسنا غِبـــــطة
لعثمــان نـــودّع مافــــي الفيــــنا أبطـــــأ
لما وصلنـــا كانـــت ســـاحات المحطـــــة
الصيد في الرصيف منظوم نظم أسطـــــه
متــباين جمــــالِن في كل واحـــــده خُطه
واحده كشكل باسطة وواحده كشكل منقة
واحده خُشــــاف مُثلّــــج فــي بلّور مُغطّي
رضوان نام وغطـّـــي والحـــور منــه فطّـه
حي تقـــي كله حاضــر ومن حي بلدو جُلّو
إلتــقت المحــــاسن في هامـــشو وسِــجلّو
والعشـــاق تبـــارو ومن فيـــض حُسنو عَلّو
والفـــارع قــــوامو ده الســــواهو خَــــــلّو
اها لمن وصل للفارع قوامو دي قاسم جراهو من كتفه وقال ليه
يازول انت جيت تودع ابوي ولا جيت تتغزل في حريمنا ؟ أمرق أرح بغادي ولّا علي اليمين اطقك بكريزتك دي ارجعك أمدرمان بعاهه)
ورجعا معاً بعد أن سافر عثمان بريمة وآله للحجاز وفي اليوم التالي كانت مأدبة غداء مُعتبرة في منزل القصّاب قاسم تنتظر ضيوفها المعنيين بها وبعد تناول الغداء أخرج العازف الكبير الطيب خليفة كمنجته من بيتها وأنزل صاحب الدار العود من فوق مكتبته وتناول الفنان عبدالفتاح عباس (كُبايتين )شاي ليعزف بهما الإيقاع علي طريقة عبدالعزيز محمد داؤود بالكبريته وحدباي يهز بعصاته طرباً وكانت تحلية ذلك الغداء لحن أغنية (الزهر المُنمّق) وبعد أيام من تلك البروفه كان فتاح يشنّف بها أسماع الناس في الأبيض .
ناصر قاسم عثمان بريمة
يتبع