منوعات

أيام حدباي في كردفان (1)

أيام حدباي في كردفان (1)

 

ناصر قاسم عثمان بريمة

في يوم سعيد من أيام العام 1901 تسابق الجيران في حي (ود درو) لمنزل العم أحمد عبدالمطلب أُرو لمعرفة سبب تلك الزغاريد التي إنطلقت من داره لتعم أسماع البيوت ولحظة وصولهم للدار قابلتهم الأسرة بأطباق البلح والإبتسامات معلنةً لهم عن وصول وافدٍ جديد كانوا قد إختاروا له إسم حدباي في حالة مجيئة ذكراً وقد كان.
شبّ حدباي وترعرع في حي ود درو أنيقاً نقي الروح والدواخل مُحبّاً للجَمَال حتى كُنّي به فصار لقبه (شاعر الجمال) والألقاب هذه ظلت تصاحب الشعراء من زمن الجاهلية كالنابغة الذبياني وأبوالمهلهل ومجنون ليلي وحتى زمان المساح الذي لقب بـ(الهيمان) وعبدالله النجيب (شاعر العيون).

منذ صباه أحس حدباي بخفقان قلبه المرهف وبجحافل أشواقه المتعبة يتملكانه فكان يجوب أمدرمان خاصته ويمشي على خطى خليله الخليل يبحث عن آثاره في تلك الجهات التي كان يمشيها وعن ذكرياته فيها وكأنما لسان حاله يخاطب تلك الدروب (ياليت الزمان بالشافو لو مَكّنا)
فكانت أبوروف هي القبلة:
مـن فتيـح للخــور للمـغـالق
من عـلايل أبو روف للمزالـق
قـدلة يا مولاي حافـي حالـق
بالطـريق الشـاقــيه الـتـرام

فهناك كانت تتوق نفسه لمرائي الخليل ولمجالي وده ومراتع صباه وساحات أنسه ثم تأخذه قدماه للسيد المكي وبيت المال والركابية وحتى نواحي القلعة عله يجد فيها بدور أخرى كبدور أبو صلاح وفي سبيل ذلك عانى ما عانى من روحه الهيمانة بكل جميل فكم من لحاظٍ جرّحته وكم من بسماتٍ كادت أن تودي به من فاتنات تلك الأيام وهو يغني مع أبو صلاح
الـعيون النــوركــن بجـهـرا
غير جمالكن ميـن الـسهـرا
السيوف الـحاظـك تشـهـرا
على الفؤاد المن بدري انهرا

ثم تتفرع أشواقه على حبيبته الكبري أمدرمان فينثر خرائده (علي قِلتها) علي حِسانها فيكون لـ(مي) منها نصيباً رغم محاولته إخفاءه الإسم بتمليحه بـ(مَيّه) في أغنيته التي غناها مع كرومة وتنال (خولة) حظها هي الأخري في أغنية (البي صباها) لبلبل ود رواه الصداح عبدالفتاح عباس الذي أشجانا بها في كردفان:
من ده النوح أخير لي وأولي
الـزم صـمـتي وارجــا المولي
الحـيا والـعفـاف والــصــولة
انحــصرو الجـميع في خولة

ثم يحل بعد ذلك شاعرنا حدباي على كل مجالس ومنتديات أم درمان وتجمعاتها الأدبية مع فرسان زمانه من الشعراء العبادي وود الرضي وأبو صلاح ومحمد علي الأمي وعبيد عبدالرحمن وخليل فرح أفندي ويقدم بطاقة هويته كشاعر وتحتفي به مجالس تلك الأسماء أيّما احتفاء فيصير نديمهم وجليسهم لكنه يخص منهم خليل فرح افندي بعلاقة روحية خاصة لفتت انتباه كل الناس وسببها كان إنبهار حدباي بشعر الخليل وإيمانة القاطع به حتى يظن كثير ممن عرفوه أن إعجابه بخليله كان سبباً في قلة منتوجه الشعري على جودته وحلاوته فحدباي كان راوية الخليل وحافظ أشعاره فكان إذا نسي الخليل بيتاً يذكره به وحتى بعد رحيله ظل حدباي وفياً له وكأنما كان هو خبيئة الأقدار لنا حتى يواصل نشر الخليل ففي اي نادي او محفل كانت تتم دعوته له كان يبدأ اولاً بواحدة من قصائد صديقه وملهمه ثم يقدم هو من شعره، هذا الإعجاب الكبير كان سبباً لسفر حدباي للقاهرة مرتين الأولى ككورس لكرومة والثانية ليسجل رائعة خليل أفندي (عازة في هواك) كأسطوانة بصوته الجميل وقد أجمع رفقاءه على جمال صوته الذي كان من الممكن أن يصير به فناناً كبيراً مثل الحاج محمد أحمد سرور أو اللمين برهان لكنه استحسن الشعر على الغناء وربما كان للخليل أثره هنا أيضاً.

محبة حدباي لصاحبه جعلته يسكن معه في غرفة واحدة لعدة سنوات يناقشا فيها قصائدهما ويسامرا بعضهما فإذا ما أوجع الوجد الخليل شكى همه لحدباي، ولحظة ما فارقه نحسه وإلتقى صفيته قدّم لحدباي حلاوة بشارة لُقيا المحبوب بعد جفوه طويلة أوهنت جسده أشار إليها بكلمة (تويت):
يـا حـدبـاي تـويـت
لي حول مقاشر أقراني
كايس الوصلو بسعدني
ويــذيل هــجــراني
نـحسـي عتقنـي
واتقدم حبيبي شـــراني
والملك البباري السُعدا
الليــلة ظـله براني

ناصر قاسم عثمان بريمة

يتبع

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى